في رثاء أمي الغالية

data:post.title

 في رثاء أمي الغالية 


بقلم: دوريش بن سالم الكيومي 



في الحقيقة، يعجز اللسان ويجف القلم عن التعبير والكتابة والشرح في هذا الموضوع. وما أكتبه من رثاء، فهو مجرد تخفيف من الثقل المكبوت في الصدر، والحزن الذي يسكن القلب والعين، بوفاة أقرب وأعز إنسانة في الوجود، أمي الغالية، مساء يوم الثلاثاء الموافق ٢٢ ذو القعدة ١٤٤٦هـ، الموافق ٢٠ مايو ٢٠٢٥م، عن عمرٍ يناهز ٨٥ سنة.


ومهما أرثي أمي الغالية وأكتب لها هذه السطور، فلن أوفيها حقها، فأمي هي الدفء والحنان، وهي الغطاء الذي نحتمي تحته بالراحة والبركة والسعادة والطمأنينة. هي نبع الحنان، والنسيم الذي لا ينقطع، سواء في الصيف أو الشتاء.

كانت أمي، رحمها الله، من بيئة جبلية، وتحديدًا من قرية تُعرف بالسمت الاجتماعي والتماسك الأسري، هي قرية "ميحة بني كيوم". تربت في ظروف صعبة للغاية، في الحلة الشرقية، في بيت صغير يتكون من غرفتين، وأمام البيت جلسة صغيرة تُعرف باللهجة العامية بـ(المنامة). فقدت الأب مبكرًا، وكانت تعتمد على الأم، والأخ أبو حمود، رحمه الله، بالإضافة إلى جدتي عائشة بنت ناصر المقبالية من وادي حلحل، والتي كانت أمي ترافقها طوال الوقت إلى "القصيرة" و"الكيبي" لإحضار الرطب وطعام الماشية.


انتقلت أمي من "الميحة" إلى منطقة "البداية"، وهي تحمل معها صفات مميزة: الجود، والكرم، وسعة الصدر، والقلب الطاهر، والروح السخية التي تمتد بالخير للصغير قبل الكبير. كان لها مكانة عالية وسمعة طيبة بين الجيران.


شاءت الأقدار أن نفقد أبي في شهر مارس عام ٢٠١٢، فانتقلت أمي إلى بيوت الأبناء والبنات. وقد كان لي أنا النصيب الأكبر بأن تسكن معي في غرفة خاصة بقية سنوات عمرها، حتى وافاها الأجل وهي على سريرها، رحمه الله عليها.


وبعد رحيل أمي الغالية، أصبحنا نرى العوض في أختي الكبرى من الأم: "زوينة أم عبدالله"، و"شيخة أم حسين"، واللتين نلمس فيهما بعضًا من دفء الأم، بقلبهما الحنون، وروحهما الجميلة، ووجههما البشوش، وصدرهما الرحب، وأسلوبهما المطمئن، فصارتا من يهوّن علينا هذا الحزن العميق الذي لا يفارق كل من فقد أمه في هذه الدنيا.


في زمن أمي الغالية، كانت الحياة ممتعة جدًا، بحكم التقارب الأسري، والجيرة الطيبة التي كانت تقرّب بين أهالي الحارة. ولا ننسى تلك المواقف والعِبَر، وكأننا أسرة واحدة، سواء في الأيام العادية أو في مناسبات الأعياد. ما أجملها من أيام، أيام التجمع في مجلس واحد، وعلى سفرة واحدة بين الأحبة والأهل والجيران الأعزاء. كانت البيوت صغيرة… ولكن القلوب كانت كبيرة، بعكس ما نحن عليه الآن: كبرت البيوت… وصغرت القلوب والنفوس. أصبحنا لا نرى أقرب الناس إلا صدفة، أو عبر اتصال.


زمنٌ اختلف كثيرًا عن زمن أمهاتنا، زمنٌ كان يحثّ على التواصل والتراحم الاجتماعي الحقيقي.


اللهم اجعل أمي سيدة من سيدات الجنة، وبيّض وجهها يوم تبيض وجوه وتسود وجوه.

اللهم ظلّها تحت ظل عرشك يوم الوقف العظيم، واجعلها من السبعين ألفًا الذين يدخلون الجنة بلا حساب ولا سابقة عذاب.

اللهم أنت رب هذه الروح الطاهرة، وأنت خلقتها، وأنت هديتها للإسلام، وأنت قبضتها، وأنت أعلم بسرّها وعلانيتها.

اللهم نرجو لها رحمتك ولطفك وإحسانك وجودك وكرمك.

اللهم اجعلها مع الذين يسعدون في الجنة خالدين فيها ما دامت السماوات والأرض.

اللهم إنها كانت لسماع آياتك قارئة، فشفّع فيها القرآن، واجعلها ترتقي إلى جنتك بآخر آية قرأتها، وآخر حرفٍ تَلَته.

اللهم ارزقها بكل حرف حلاوة، وبكل كلمة كرامة، وبكل آية سعادة، وبكل سورة سلامة، واجعلها من أهل جنتك، اللهم آمين.