اللبن المسكوب
بقلم :بدرية مبارك الدرعي
(لا تبكِ على اللبن المسكوب)، يقال أن قصة هذا المثل تعود إلى مُدرس بإحدى المدارس الإنجليزية، ويروي قصة المثل قائلًا: كان لدي تلميذ متفوق جدًا للغاية، وكان دومًا يحصل على الدرجات النهائية، وكنت فخورًا به، ذات يوم سألت عنه فرد من زملائه وأخبرني بأنه غائب ولا يأتي إلى المدرسة، فطلبت من أحد التلاميذ بأن يخبره بضرورة حضوره للمدرسة.
فى اليوم التالي حضر التلميذ ولكني فوجئت بحال آخر له، إذ وجدته شارد غير منتبه للحصة وغير مبالٍ بالدرس كالسابق، و قلق ومتوتر ويشوب وجهه علامات الحزن والضيق، سألته عما أصابه فبكى وأجاب بأنه يعاني من موقف صعب للغاية ألا وهو أنه كان يحب أحد أصدقائه، ويعتبره بمنزلة أخٍ له، وذات مرة طلب منه كتاب خارجي حتى يذاكر فيه قبل الامتحان، فرفض حتى انتهى أمره بأنه رسب في المادة، فأصيب بتعبٍ شديد منعه من الحضور إلى المدرسة.
وأكمل: شعر بالحزن الشديد والقلق والتوتر لما فعله إزاء صديقة، وقد حاول أن يصالحه أو أن يصل له ولكن دون جدوى مما جعله يشعر بالضيق، شعر المدرس بالقلق على تلميذه وأراد أن يحرره من هذا الضيق، معلمًا إياه درس هو وزملائه فأخذ يفكر كثيرًا حتى انتهى الأمر به إلى فكرة وكانت الفكرة أنه أتى بكوب زجاج من اللبن، ثم كسره فوقع على الأرض وانسكب، فطلب من التلاميذ أن يأتوا باللبن ويأتوا بالكوب لكنهم فشلوا ولم يستطيعوا أن يعيدوا الكوب كما كان ولا حتى اللبن.
على ذلك أجابهم المدرس بسبب استحالة حل المشكلة فردد قوله يا “أبنائي تذكروا لا تبكِ على اللبن المسكوب"(موقع البوابة نيوز..أنجي نصر).
هكذا وجَّه تلاميذه بأن عليهم ترك أطلال الماضي بما فيه، والتعلم من الأخطاء، والاستفادة منها، ومن هنا عزيزي القارئ أتمنى أن تعيرني سمعك، ابتعد عن كل ما يعج بسعادتك، ويأجج حنقك، ويسلب صفو راحتك ويختطفها، ولا تدخل نفسك في دوامة وتكون كحبوب القمح التي تطحنها الرحى، ولا تقف عند سراديب الماضي فلن يعيد الحزن ما ولى ومضى، واعلم أن الكلام لن يغير ما حدث، ولن يُحي العتب ما قُتل، فأغلق أبوابها وارحل.
تعلمنا أن سرعة الغزال ٩٠ كم في الساعة، بينما سرعة الأسد ٥٨كم في الساعة، ولكن الأسد يلحق الغزالة ويفتك بها، ولا يخفى على أحد منكم أن سبب ذلك؛ هو كثرة إلتفاتها.
ودعنا نتأمّل معًا في قوله تعالى "قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُوا إِلَيْكَ ۖ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ ۖ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ۚ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ ۚ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ" (سورة هود الآية ٨١)، هنا دعوة منه جل جلاله لسيدنا نوح وأهله إلى مغادرة القرية وعدم الالتفات والنجاة بالنفوس أن يصيبها ما أصاب قومه من السوء فكانوا فاسقين، وبشرهم أن الصبح لقريب، ومن هنا يعلمنا ربنا بعدم الإلتفات، فإذا فارقت شيئًا وغادرته لا تنسى أن تأخذ معك روحك، وقلبك، وذكرياتك، وإياك والإلتفات فإنه يدق ناقوس الحنين، فتأن الجروح وتفتح، فيعود القيح ويملأها، فتتجدد المواجع، وحينئذ يصعب اندمالها.
أي نعم أن النفس تحتاج إلى وقت حتى يتسنى لها ذلك، وأحيانًا حتى النسيان لا يسعفنا للتخلص من ألم الماضي، ولكن لا تطل المكوث هناك بل اجمع شتاتك، وتخلص من كل ما يؤلمك، وتضرَّع لربك في جوف ليل بهيم، وادعوه بقلب مخلص أن ينتشلك من غياهيب الحزن، ونصيحتي لك، شمِّر عن ساعديك، وتناول معولك وهل عليه التراب وامض، وتذكر هل بعد أن يهال على الميت التراب، أيعود؟ هيهات هيهات أن يكون ذلك، وها أنا ذا أقول لك، أي شيء في هذه الحياة إذا كبرته سيكبر، وإذا صغرته سيصغر، وإذا هونته سيهون، واستمع لما يقال لاتبـكي على شىء مضى، بـل اجعله درسًا لــك، واعلم أن الضربة التـــي لم تقتلك فإنها زادت مــن قوتك، ولا شىء يجعلك عظيم إلا ألم عظيم فليس كل سقوط نهاية، فسقـوط المطر أجمل بداية، لذلك توقف عن النحيب، وتصالح مع الماضي، واستفد من التجارب والدروس، وعش الحاضر بسلام، وانظر بعين أكثر إشراقًا للمستقبل.