رحيل عمي سالم .. الصابر والصابرون
بقلم: خميس بن علي الهنداسي
الأحد السادس من ذي القعدة لعام ١٤٤٦ هـ، الرابع من مايو ٢٠٢٥، ودّعنا عمّي سالم، الرجل البسيط الطيّب، بعد مسيرة حافلة بالعطاء والصبر والرضا، رحل جسده، لكن بقيت روحه حاضرة في تفاصيل المكان، وبين وجوه من أحبّوه وعرفوه.
في حارتنا "الغليل"، لا تخطئه العين، يقابل الناس بابتسامة هادئة، وكلمة طيبة، وروح متواضعة تحمل في طيّاتها الحكمة والرضا، لم يكن من أصحاب الضجيج، بل من الذين يتركون أثرهم بصمت.
امتهن عمي صناعة "قوارب الشاش"، وأجاد بها، تلك القوارب الخشبية التي كان يصوغها بيديه كأنّه ينحت جزءًا من البحر، كانت أدواته بسيطة، لكن فنه كان دقيقًا، وروحه حاضرة في كل قارب يُبنى على يده، لم تكن القوارب مجرد مراكب، بل كانت شواهد على مهارته، ومصدر رزق لعشرات الصيادين الذين يثقون بما صنعت يداه.
وكان أيضًا صيادًا، يعرف البحر كما يعرف يده، يخرج مع خيوط الفجر، يحمل معه الزاد والدعاء، ويعود مع غروب الشمس محمّلًا برزق الله، وملابسه مشبعة بملح البحر وتعب الرجال، كان كريمًا، يقتسم رزقه مع اخوانه وجيرانه وأهل الحارة دون منّ أو تكلّف.
أما "السبلة"، فكانت مجلسه ومتنفسه، يجتمع فيها مع رفاقه، يتبادلون الضحكات والحكايات، يتسامرون على لعب الدومنة والورق أحيانا، ويتذكرون أيام البحر، وأحاديث الزمن الجميل، كان حديثه ممتعًا، وسرده للحكايات يأسر القلوب، فيه من البساطة ما يجعلك تنصت ولا تملّ.
قبل سبع سنوات وأكثر قليلا، أصابته جلطة جعلته طريح الفراش، مرض أنهكه، لكنه لم يكسر صبره، كان يتقبّل الألم كما تقبّل الحياة: برضا وإيمان. لم يعرف التذمر، بل كان يسكن في ملامحه نور الصابرين.
أبناؤه، هلال وهاني الذين نشأوا على يديه وتعلّموا منه الرجولة والخلق، أحاطوه بخدمتهم وحنانهم، وكانوا نعم السند، صبروا على مرض والدهم طوال تلك السنوات، لم نر منهم التذمر على حالة والدهم وإنما كانوا في خدمته ومساعدته طوال تواجدهم معه ، وزوجة عمي، رفيقة دربه، كانت مثالًا نادرًا للصبر والوفاء، لم تتخلَّ عنه لحظة، تحمله بقلب الأم، وتصبر عليه بجميل التوكل والاحتساب، رغم ما يمر بها من مرض كذلك، هو الصابر على البلاء والمرض، وهم الصابرون عليه وعلى الوضع الذي كان يعيشه تلك الفترة.
رحل عمي سالم… لكنّه لم يرحل عن بالنا وعن دعائنا، بقيت ذكرياته تعبق في مجالس الأهل، وحكاياته تتردّد بين من عاشروه، ومواقفه الطيبة تحيا في القلوب.
رحمك الله يا عمّي، وأسكنك فسيح جنّاته، كنت من أولئك الذين يرحلون بهدوء، لكن لا يُنسون، طبت حيًّا وميتًا، ونسأل الله أن يجعل قبرك نورًا، ومقامك في الفردوس الأعلى من الجنة. آمين
