غريب عابر وكوب قهوة

data:post.title

 




غريب عابر وكوب قهوة 


بقلم الكاتبة: أشواق العمرية


تلتف حول عنقي الكلمات 

تتناثر أمامي …

لا أستطيع لملمتها…

أشعر بأنها تخرج من صلب أطراف أصابعي ..

لتتركني في منتصف المتاهة العارمة وسطي..

أتجمد حولي …

فبينما كنت أقعد على طاولة خشبية رثة يبدو أنها قديمة ومر عليها زمن طويل، إلا إنها ما زالت صامدة رغم هشاشة أطرافها … 

كانت هناك نظرات مسترقة من الزاوية القصية للمقهى ..

كان منهمكاً يتأمل تفاصيل كوب قهوتي الباردة

وكأنه يسألني !!!

أيعقل أن تُشرب قهوةٌ باردةٌ في شتاء يناير ؟!

كنت أقرأ رجفات أطراف يديه 

يسترق النظر لصفحات كتابي الذي كنت أقرأه 

وتارة أخرى يغرد بعيدا بعينيه التي يثقلها حديثٌ مكتوم …كنت أرغب برؤية ما خلف تلك النظرات لكنني منعت فضولي ..

عُدت إلى صفحات كتابي لأستنشق عبير الحروف 

لأُسافر إلى عالمي الذي أحب …

بدأت قطرات الغيث تعانق الأرض 

وازدادت رجفات الرفيق القابع في زواية المقهى ..

وكأن الغيث دق ناقوس الذكريات في حياته …

تجرأت واقتربت خطوة ثم تراجعت 

تجرأت واقتربت خطوتين أكثر ثم استأذنته لأشاركه المقعد الفارغ أمامه …

لمعان بريق عينيه يوحي بأسئلة كثيرة:

لماذا؟

من؟

ومرحبا !!!

دهشته كانت تسابق حديثه!!

- قهوة ساخنة؟!

يهز رأسه نعم وألف حديث يجول في خاطره 

أمعنت النظر في عيينه لأستشف ما يسكن في ذهنه !!

مقاطعاً صمتي :

- أنتِ لن تشعرين حتى وإن حاولتِ !

اقتربت منه برفق لأطبطب على كتفيه 

وكأنني أُسقيه الأمان الذي نُزع منه 

أطالع عينيه بنظرات متتالية للحد الذي جعله 

يُسقط عينيه على كوب قهوته الساخنه وبدأ في الحديث …

إنها المرة الأولى الذي يعزمني فيها رفيق عابر على قهوة …

والمرة الأولى التي  يتجرأ فيها أحد ويقترب مني ويجلس بقربي …

فما أنا إلا صندوق من اللامسؤولية واللاوسطية

فمهما حاولت أن أكون كالبشر لن أنجح 

حتى إنني لا أتذكر متى آخر مرة ضحكت فيها 

لا أعلم الصواب ولا أعلم لذة التعلم من الخطأ

أمضي بهمجية مطلقة !!

مرت سنوات نسيت فيها طعم ملوحة دموعي 

تجمدت كل حواسي أمام الحياة 

ما الذي ترجوه من الجلوس مع شخص فارغ من نفسه تماما بقي معلقًا إلى الأبد على حبل مشنقة 

لكنه لم يفعلها أبدا

هكذا هو معلق، محطّمٌ حدّ الموت، ومبعثرٌ حدّ الاضمحلال، لكنه إلى الآن ما زال يتنفس …

مرت أيام وأعوام لم أشعر بها كنت فقط 

أتحسس جسدي لأشعر أنني ما زلت أتنفس …

وثم ….ثم ..

تعثرت حروفه حتى حاصرها الصمت 

وكأنها دموع على المحاجر تناجيه ليفك أسرها ويطلق سراحها …

شددت القبضة على يديه

-  إني هنا كي أسمعك

أطال النظر في عينيّ وكأنه يرجو مني ألا أغادر وأتركه بين مرارة الحديث والصمت …

أحسست أنه ينتظر مني كلمة واحدة 

كلمة من بضعة أحرف ليقرر بعدها هل سيكمل حديثه معي أم لا !!

بعدها وقف يتأمل الغيث من خلف شباك المقهى

ليتلو تمتمات لم أعد أسمعها حتى مد يديه لأمسكها وكأنه يخاطبني: - دفئيني وأشعريني بالأمان لأسرد لكِ حديث روحي المكلوم …

وضعت يديّ على كتفيه حينما قال لا أستطيع إخبارك عدد المرات التي سقطت فيها ظنًا مني أن أقدامي ما عادت تعمل ،لقد استهلكت طاقتي كلها 

لم أعد أعرف أين سأُولّي قبلتي ،لم يبقَ شيءٌ هنا 

بِتّ أرسم على جدار غرفتي الفارغ فراغاتٍ أخرى 

ومتاهات لا نهاية لها،

لقد استهلكت وقتًا طويلا أحاول وكلما وصلت إلى الحافة تراجعت حتى أصبحت الحياة عبارة عن محاولات لا أكثر 

وتبخرت الحلول من دماغي، 

بقيت فارغا 

حتى فقدت الرغبة والرهبة، وبقيت معلقًا كما ترينني الآن أمامك جثةً هامدة وجسداً بلا روح ..

احتضنته بعمق، وكأنني أعرفه منذ زمن بعيد غير مسمى، مسحتُ دموعه بكفّي لأنني للحظة شعرت أنه يمثلني،  أنني أنا المتحدث وكأنه كان يسرد واقعي الذي مررت به …

بعدها عاد ليرتشف بقايا قهوته وكأنه مسح الغبار عن قلبه ليعود ويمسك يديّ ويغلق عينيه ليطلق ضحكات ترددت على عتبات زوايا المقهى ليسمعها كل من فيه متعجبا. 

- شكرا أيها الغريب العابر،

لقد استطعتَ إجباري على الحديث بعد انقطاع،

لقد أخرجتُ كمية من المشاعر التي كانت تنهشني من العمق ،

ومن شدة صمتي كان الجميع يظن بأني أعجمٌ لا أتحدث ….

هاأنذا أستعيد نطقي من جديد،

هاأنذا أسترد حقي في الحياة من جديد،

فقط لأن أحدهم التفت إليّ وأشعرني بحقي في الحياة، والضحك، والتفاؤل

أنا مدينٌ لكِ - بل مدينٌ لك أيها الغريب - طيلة حياتي

سأذكركَ بخير

فلتعش سالما محبّا للغرباء أمثالي.