كل ثلاثاء
الخابورة... حين تحدّثنا الحجارة
أحمد بن علي القطيطي
لم يكن الفجر قد تلوّن بعد حين بدأت خيوط الشمس تداعب وجه البحر، أرسل موجهُ الأزرقُ سجيًّا نحو الساحل، كما لو أنه يُهدهد قلب المدينة، بينما النوارس كانت تصدح وكأنها تستعرض ترانيم الصباح.
على الشاطئ، كانت آثار أقدام الصيادين تنبض بالحكايات، يعودون باكرًا، يحملون في سلالهم ما قذفه البحر وما صادوه من تعب السنين، وعلى مقربة، يقف حصن الخابورة، لا كرمز عسكري فقط، بل كراوٍ صامت، يستذكر وجوه العابرين.
في زوايا السوق القديم، لا يزال دكان باقر ومقهى عبّاس يسكنان الذاكرة، جلست ذات يوم على كرسيٍّ خشبي بجانب محمصة صابر، وانطلقت من القهوة روائح لا تُنسى... خليط الهيل والذكريات، هنا كان الرجال يتحلّقون، يتداولون حكايات البحر والسياسة، والنسوة يتبادلن وصفات الحلوى والسُّكّر.
ثمّة عيونٌ كانت تلمع عند جسر الخور، حيث يمرّ المزارعون نحو أماكن بيع الأعلاف، وجِسرٌ خشبيٌ قديمٌ يئن تحت ثقل السنين، وهناك دكّان محمد جمعة ودكّان أم سيف.. لم يبقَ منها إلا أطياف، بعدما مرّت عليها مخالِب "شاهين"، فهدمت الجدران لكن لم تمحُ الذكرى.
حين يُقال "الخابورة"، لا تُذكر فقط الأسواق، بل تُبعث صور وادي المسيلة، وهو يتسلل كالقصيدة بين المزارع، ويغمر "طوي حماد" بماءٍ عذب، رغم اقترابه من البحر المالح، وتُذكر "المكلا" التي كانت النساء يرتدنها لغسل الملابس، بين بيوت النشّال، ومسجد الجدّ حميد الفريسي، الذي صمد لكنه خُذل.
في صيف طفولتي، كنا نذهب باكرًا إلى سوق "سابع"، ونتوارى عن سكن المعلمين كي لا يبصرنا أستاذ "محمد بهنس". كنا نخشاه... ونحترمه... ونضحك من خوفنا بعد أن نعود لمنازلنا.
لم تكن "الخابورة" مجرد مدينة... كانت ذاكرة تمشي، وجدارًا يُشبه صدرَ أمٍّ تُخبّئ صور أبنائها تحت عباءتها السوداء.