كل ثلاثاء: حكايات مؤثرة

data:post.title

كل ثلاثاء: حكايات مؤثرة


الكاتب: أحمد بن علي القطيطي 






العجوز والحطب

في عمق الغابة، حيث تتعانق الأشجار وتغفو الطيور على أغصانها، عاش كاليمبا، رجلٌ شجاع من قرية صغيرة لا يعرف أهلها الكسل. كان حطّابًا قويًّا، يقطع الحطب بيديه العاريتين، ويغنّي أغاني الأجداد وهو يسير بين الجذوع.

في ليلة شتوية قاسية، هبّت عاصفة عاتية فابتلّ كل ما جمعه من حطب. ورغم البرد والخذلان، لم يتوقّف. حمل الحطب المبتلّ على ظهره ومشى نحو السوق، على أمل أن يجد من يشتريه. ضحك عليه التُّجّار، وهزّوا رؤوسهم: “من ذا الذي يشتري ماءً ملفوفًا بخشب؟”

لكن وسط العتمة، تقدّم رجلٌ عجوز ذو لحية بيضاء كثيفة، قادم من بعيد، من بلادٍ جليدية اسمها كندا. قال بصوت هادئ: “سآخذ هذا الحطب… أحتاجه للمدفأة، لا لدفء البيت، بل لأمرٍ أعمق.”

قبض كاليمبا الثمن القليل، ووقف يراقب الرجل وهو يضع الحطب في موقدٍ قديم من الطين. وما إن أشعل عود الثقاب حتى حدثت المفاجأة: اشتعل الحطب! اشتعل رغم المطر، رغم البلل، كأنّ نيرانًا خفيّة تسكن داخله.

نظر العجوز إلى كاليمبا بعينين لامعتين وقال: “هذا ليس حطبًا عاديًّا… هل تعرف من أين قطعته؟”

هزّ كاليمبا رأسه. فقال العجوز: “من قلب شجرة الأوكاليفا المقدّسة، لا تحترق إلا لأناسٍ قلوبهم لا تخمد.”


ومنذ تلك الليلة، انتشر خبر الرجل الذي باع الحطب الناري، وأصبحت زيارته طقسًا سنويًّا في القرية. لم يعد يُعرف فقط كحطّاب، بل كـ”حامل النار”، الرجل الذي أحيا جذوة دفينة في قلوب قومه.

بائعة الثقاب ونجمة الأمل

في إحدى القرى النائية عند سفح جبل ماكالي، كانت تعيش فتاة صغيرة تُدعى ليليانا، تبيع أعواد الثقاب في طرقات موحلة، بصوتٍ يكاد يُسمع من رقّته. كانت يتيمة، ترتدي فستانًا ممزقًا تحرسه رقعة أمّها المطرّزة بيدين مُحبّتَين.

في إحدى ليالي الشتاء القاسية، اجتاحت الرياح القرية، واختبأ الناس خلف جدرانٍ من الطين. أمّا ليليانا، فجلست عند مفترق طرق، تلفّ جسدها النحيل بشالٍ ممزّق، تبيع أعوادها التي لم يقترب منها أحد.


جاء الليل، وبدأت تشعل عودًا تلو الآخر، لا للبيع، بل للدفء. ومع كل عود، لم تكن ترى نارًا فحسب، بل رؤىً…

في العود الأول: رأت أمّها تبتسم تحت شجرة المانغو، تدعوها لحضن دافئ.

في العود الثاني: لمحت مائدةً عامرة وفستانًا جديدًا بزهور بنفسجيّة.

في الثالث: رأت نفسها تحمل حقيبة كتب، تمشي في طريق المدرسة، والقرية تصفّق لها.


وبينما تحترق أعوادها القليلة، لمع نجمٌ ساطع في السماء، وسقط كنيزٍ سماويٍّ على الأرض. هرع إليه الناس، وهناك، وجدوها نائمة، تبتسم كأنها تستعدّ لرحلةٍ طويلة.


يقول أهل القرية إلى اليوم، إن أعواد ليليانا لم تكن عاديّة. كانت تحمل أمانيَ، وتحترق بالأمل. ومن حينٍ لآخر، يظهر طفل عند مفترق الطرق، يشعل عود ثقاب… ويبتسم.

حكاية “رونق”

ذات مساء، حين بدأت الشمس تخلع ثوبها الذهبي وتكتسي بالخجل، ظهرت “رونق” في زوايا المدينة كأنّها سطرٌ نُسي في قصيدةٍ نزارية. كانت تمشي بخطى أنثى تعرف تمامًا أن الأرض تستأنس بوقع حذائها، وأن الهوى يُضبط على نغمة مشيها.


رونق لم تكن تُشبه أحدًا، لا لوجهها الذي يشبه المطر في عزّ الصيف، بل لروحها التي تضيء الظلمة حين تعبر. كانت كلّ يوم تعلّم الحياة كيف تتهندم: مرة بابتسامةٍ صافية، ومرة بصمتٍ يليق بالملوك. من حولها لم يكن يرَ فيها امرأة فقط، بل تجلّيًا لكلمة “أنثى” حين تُكتب بحبرٍ من احترام، وندى من وقار.


كبرت رونق وسط مجتمعٍ يحبّ المرأة صدى لا صوتًا. لكنّها، برشاقة الحرف وثبات الموقف، رسمت ملامح حضورها دون أن تُصادر أنوثتها. لم تُساوم على حيائها، ولم تُغلّف ذكاءها بتواضعٍ زائف، فكانت مزيجًا من عنفوان الياسمين وهدوء القمر.

وحين كان يُسأل عنها: “من هي؟”، كان الجواب: “إنها رونق… ليست فقط أنثى، بل المعنى الأجمل لكلمة أنثى حين تُترجم على هيئة إنسانة”.


وفي زحام الأيام، لم يكن الحبّ استثناءً في حكاية رونق.

كان يُدعى “سليم”، رجلًا يحمل في عينيه مساحاتٍ من الصدق، وفي صوته نبرة تُشبه الوطن حين يُنادى عليه من بعيد. التقت به صدفة—كما يليق بالبدايات الكبيرة—في مكتبةٍ تبحث فيها عن كتابٍ لنزار، فوجدت في حديثه فصلًا لم يُكتب بعد.


لم يكن الأمر حبًا من النظرة الأولى، بل تأمّلٌ طويل، يليه انجذابٌ صامت. تحدّثا عن الشعر، عن الاغتراب، وعن القيم التي لم تعد تُعرض في الواجهات. سليم لم ينبهر بجمالها فقط، بل بهرته قوّة حضورها، ونُبل حيائها، وذاك الضوء الذي يشعّ من طهر نواياها.


لكن المدينة لم تكن رحيمة، ولا الزمن كان نزيهًا. بين طموحاته وأحكام العائلة، ووسط التحدّيات التي لا ترحم العاشقين، تعثّر الحلم. لم يكن فراقهما صخبًا، بل يشبه الهدوء الذي يسبق العاصفة… ثم بعدها، الصمت الذي لا يحمل سوى الدعاء.


رحل سليم، وظلّت رونق. لم تكسرها الحكاية، بل قوّمتها. لم تعتزل الحبّ، بل أعادت تعريفه. أصبحت الحروف ملاذها، والقصائد ترجمان قلبها، وكل امرأة قرأت قصّتها، شعرت بشيءٍ منها يتنفّس فيها.



شاطئ الخابورة


شاطئ الخابورة، الواقع على الساحل الشمالي لسلطنة عُمان، هو لوحةٌ طبيعية تنبض بالسكينة والجمال. هناك، حيث تلتقي زرقة البحر بزرقة السماء، تمتدّ الرمال الذهبية في هدوء، وتداعبها أمواج الخليج العُماني برقةٍ شاعرية.


يربض حصن الخابورة بجوار الشاطئ، كأنّه حارسه الأمين. وفي السبعينيات، كان سوق الخابورة أيضًا يجاور هذا الشاطئ الهادئ، الذي يبثّ روح النشاط في أهل الولاية، بينما ينساق إليه الكثير من الزبائن بشغفٍ وأمل.


وكانت هناك قديمًا مدرسة “الحواري بن مالك”، ولها ذكريات جميلة، مما يجعلنا نشتاق إليها. وكان وادي المسيلة ينساب ليصبّ في البحر، يحتضن المزارع والنخيل، سالكًا طريقه إلى الماء.


ما يميّز هذا الشاطئ ليس فقط صفاء مياهه، بل أيضًا تنوّع تضاريسه المحيطة: من واحات النخيل الخضراء إلى الأودية التي تنساب مياهها في تناغمٍ مع نسيم البحر.


في المساء، يتحوّل الشاطئ إلى مسرحٍ للغروب، حيث تتلوّن السماء بدرجات البرتقالي والوردي، وكأنّها قصيدة تكتبها الطبيعة في صمت.


شاطئ الخابورة ليس مجرّد مكانٍ للاسترخاء، بل هو أيضًا مرآة لهويّة المنطقة، حيث يلتقي الزائر بطيبة أهلها وكرمهم، ويشعر بروح الأصالة التي تسكن المكان. إنّه وجهة مثاليّة لمحبي التأمّل، والمصوّرين، وكل من يبحث عن لحظة صفاء بعيدًا عن صخب الحياة. 

Abrar Al-Rahbi
الكاتب :