حقائق بُنيت من الوهم

data:post.title

حقائق بُنيت من الوهم


بقلم: بدرية مبارك الدرعي 


"ما أبيه، ما يناسبني" قالتها مريم بنبرة واضحة: قرارها أربك أمها التي تحاول أن تفهم، كانت مريم قبل أعوام تحلم بالزواج وتحب فكرة تكوين عائلة، تتخيل كيف تشارك زوجها الحياة، ويربيان أبناء على القيم، ترى الزواج امتدادًا لعاطفتها، ومسؤولية تختارها بملء إرادتها، وفي الوقت نفسه كانت تحب مشاهدة المسلسلات وتقضي الوقت أمام الشاشات ، ترى الحكايات المتشابهة، حب يفوق الخيال، حب لا يمكن تركه ولا العيش من دونه ورأت كيف أن بعد الحب خيانات، وأمهات مسيطرات، أزواج يتبدلون بعد الزواج ثم جاء سيف، شاب جميل، خلوق، من أسرة طيبة ومحترمة، يعرفه والدها جيدًا، وله سيرة طيبة بين الناس تقدم لها بخطبة رسمية، جلست معه في جلسة شرعية قصيرة. تحدث بلطف، وأجاب بهدوء، وبدت عليه ملامح المسؤولية، لم يقل شيئا خاطئًا، ولم يترك انطباعاً سلبيًا، لكن مريم لم تهتم له ولا لكلامه، ولالسيرته العطرة، بعد ذهابه دخلت الأم غرفتها لتسألها على رأيها، نظرت مريم إليها وقالت:

"أرفضه، ولا تفكرين تقنعيني أنا مو مستعدة للزواج ما أبيه، أنا كذا معززة مكرمة"

سكتت الأم للحظة، ثم تنهدت وأمسكت يدي أبنتها بحنان، وقالت: "المشاهد اللى تمر بسرعة تترك أثر فينا من غير مانحس، تزرع خوف، وتخلينا نشك فى كل شيء حتى

قبل ما نعيشه، بس الحقيقة إن الحياة أوسع من كذا، فيها حلو كثير، وفيها تعب نعم، بس مو كله وجع، وأنتِ تستحقين تعيشين الحياة بكاملها، مو بس جزء منها، نظرت مريم إلى أمها بصمت لم تجادلها، ولم تعدها بشيء.

نامت وهي تشعر بالراحة، كانت تعتقد أنها اتخذت القرار الصحيح؛ وأنها نجت من سجن لم تدخله بعد، لكنها لم تدرك أن السجن الحقيقي لم يكن في قبول سيف أو رفضه، بل في تلك الأفكار التى زرعتها فيها القصص، حتى صارت ترى كل شيء من خلالها.

 دعنا نبدأ في طرح سؤال: "هل هذه هي طبيعة الحب الحقيقية؟"

 "هل السعادة مستحيلة كما تبدو على الشاشة؟"

 القصص التي تعرض على المسلسلات والسوشل ميديا بشكل عام  هي في الحقيقة  مشحونة مشاعريًا بجرعات مكثفة ومؤثرة مصممة لإبهارك وجذب إنتباهك، بما في ذلك أيضًا الصور ومقاطع الفيديو والمنشورات لا تكشف سوى جزء صغير مصمم ومنتقى بعناية ولحظات "مثالية" يُشارك بها ليشاهدها الآخرون، وهنا قد نبدأ مقارنتها بعلاقاتنا الخاصة، مما يزرع أو يخلق شعورًا بالنقص، هذه اللقطات المبالغ فيها سبب من الاسباب الرئيسية للكثير من الإحباط في العلاقات.

 أيها القارىء: حياتك هي رحلة تتشكل من خلال قرارتك وخياراتك التي تتبناها، أنت من يصنع قصته الخاصة أي نعم نحن نتوقع ونلج إلى عوالم خيالنا ونتمنى الكثير ولكن الحياة الواقعية أكثر تعقيدًا وتنوعًا فهي تحمل بين ثناياها لحظات من الفرح والترح، والنجاح والفشل، والنمو والتحدي.

وحتى نقرب الصورة أكثر "أنت لن تستطيع معرفة الشخص ما لم تعاشره" ومن هنا تبدأ الرحلة لن تعرف طباع الشخص وقيمه الحقيقية وطريقة تعامله مع الضغوط وردود أفعاله في المواقف الصعبة، إلا من خلال المعاشرة الفعلية والتعايش.


يقول فريدريك نيتشه (فيلسوف ألماني): "الحياة لم تصمم لتكون سهلة، بل لتكون ذات معنى." وهذا يتناغم مع فكرة أن الحياة الواقعية معقدة وليست بالضرورة مثالية، التركيز على "المعنى" بدلاً من  "الكمال" فهذا يدفعنا لتقبل التحديات كجزء لا يتجزأ من رحلتنا.

ولهذا أبني علاقاتك "بوعي" فعندما تدخل في علاقة أياً كان نوعها زواج، صداقة، عمل، حدد من خلالها أهدافك وما تريده بالضبط من هذه العلاقة؟ الدعم الذي تود الحصول عليه منها؟ وما الذي أنت مستعد لتقديمه لها؟ وما القيم التي تبحث عنها؟ فهذا سيساعدك على توجيه مسارك ولكن ضع في بالك أن تلك الأهداف لن تتحقق بين عشية وضحاها، وأن ليس هناك من خط مستقيم للسعادة وأن العلاقات حتى تنمو وتزدهر فهي تحتاج إلى وقت وجهد وصبر ، وأنك ستقابل تحديات، ولحظات يساء بها الفهم، لكن التعلم من هذه التجارب وقدرتك على التكيف معها وفهمها هو ما سيصقل شخصيتك وينمي علاقاتك.


ولننعم بعلاقات تفيض رفاهية أحتضن الواقعية بكل تفاصيلها تقبل أن كل علاقة لها تحدياتها الخاصة ولحظاتها المتفردة، وأن ليس هنالك من كمال، وتواصل بفعالية تحدث بصراحة وشفافية مطلقة مع شريك الحياة حول المشاعر والآمال التوقعات، واستثمر الوقت والجهد للتعرف على شريكك في الحياة، وأستكشاف قيمه وجوهره، وبهذا تُشيد جسور راسخة من الثقة والتفاهم.

تذكر دائمًا: قصتك ليست مجرد عرض على الشاشة، بل هي ملحمة حياتك، التي تكتبها أنت بأفعالك ومشاعرك وتفاعلاتك الحقيقية، اجعلها قصة تستحق أن تُروى، قصة مليئة بالمعنى، والتواصل، والحب الذي لا تشوبه شائبة الخيال الزائف. فالحياة الواقعية، بكل ما فيها من تحديات ولحظات فريدة، هي أجمل وأكثر إلهامًا من أي صورة مثالية تراها. 

Abrar Al-Rahbi
الكاتب :