لا تغتر
بقلم بدرية الدرعي
كان يطوف في السوق رجلٌ متكبرٌ مغرور، عليه من حسن الهيئة والزهو ما لا يعلمه إلا الله. فمرت به امرأة تبيع السمن، فقال لها: “ماذا تبيعين يا امرأة؟”
قالت: “أبيع سمناً يا سيدي.”
فقال لها: “أريني.”
وعندما أرادت أن تُنزل دلو السمن من فوق رأسها، أراقت منه بعض السمن على ثيابه دون قصد، فغضب غضبًا شديدًا، وقال لها: “لن أبرح هذا المكان حتى تعطيني ثمن الثوب!”
فأخذت المرأة المسكينة تستعطفه وتقول: “خلِّ عني يا سيدي، فأنا امرأة مسكينة.”
فأصر قائلًا: “لن أبرح الأرض حتى تعطيني ثمن الثوب.”
سألته: “كم ثمنه؟”
قال: “مئة درهم.”
قالت: “أنا امرأة فقيرة، فمن أين لي بهذا المبلغ؟!”
قال: “لا شأن لي بذلك.”
قالت: “ارحمني ولا تفضحني.”
وبينما هو يتهددها ويتوعدها، أقبل شابٌ عليهما، وقال للمرأة: “ما شأنك؟”
فقصت عليه الخبر، فقال الشاب: “أنا أدفع ثمن الثوب.”
فأخرج مئة درهم، فعدَّها الرجل المتكبر، وهمّ بالانصراف، إلا أن الشاب استوقفه وقال: “على رسلك أيها الرجل، لم ننتهِ بعد!”
ردّ المتكبر باستعلاء: “ماذا تريد؟”
قال الشاب: “هل أخذتَ ثمن الثوب؟”
قال: “نعم.”
قال: “فأين الثوب؟”
قال الرجل: “لِمَ تسأل عنه؟!”
قال الشاب: “قد أعطيناك ثمنه، فأعطنا الثوب.”
قال المتكبر: “أأسير عاريًا؟!”
قال الشاب: “لا شأن لي.”
قال الرجل: “وإن لم أعطك الثوب؟”
قال الشاب: “تعطينا الثمن.”
قال المتكبر: “المئة درهم؟”
قال الشاب: “كلا، بل الثمن الذي نطلبه!”
قال الرجل: “لقد دفعتَ لي مئة درهم فقط!”
قال الشاب: “لا شأن لك بما دفعت.”
قال الرجل: “كم تريد؟!”
قال الشاب: “ألف درهم.”
قال المتكبر: “هذا كثير!”
قال الشاب: “إذاً، فأعطنا ثوبنا.”
قال الرجل: “أتريد أن تفضحني؟!”
قال الشاب: “تمامًا، كما كنتَ تريد أن تفضح المرأة المسكينة!”
قال الرجل: “هذا ظلم!”
قال الشاب: “الآن تتحدث عن الظلم؟!”
فخجل الرجل المتكبر من صنيعه، ودفع المال للشاب، فأعلن الشاب من فوره أن المال هدية للمرأة المسكينة.
أما المرأة، فاستأذنت الشاب وتنازلت عن المال للرجل المغرور، الذي سرعان ما توارى في السوق، يتملكه الخجل الشديد.
لقد أبدت المرأة المسكينة الكثير من التسامح، فكانت أشد منه ثراءً في النفس، وأعظم كرامة.
الغرور في اللغة: كل ما يَغُرُّ الإنسان من مال أو جاه أو شهوة.
واصطلاحًا: هو سكون النفس إلى ما يوافق الهوى ويميل إليه الطبع، كما عرّفه الجرجاني.
ويقول د. هاشم الحسيني، المتخصص في علم النفس الاجتماعي:
“الغرور هو نظرة خاطئة إلى الذات، إذ لا يقدّر الإنسان قيمة نفسه بالمعيار الصحيح، ويظن أنه يتمتع بقدرات لا يمتلكها أصلًا. الغرور يدفع صاحبه إلى التصرف بتعجرف مع الآخرين، مدفوعًا بثقة بالنفس غير مبررة ولا تستند إلى أسس صحيحة. إنه نوع من سوء تقدير الذات.”
وقد نظر الإسلام إلى الغرور على أنه سبب لهلاك الإنسان وشقائه في الدنيا والآخرة، لأنه يميل إلى اتباع هواه والبعد عن الخضوع لأوامر الله. وهو ما جعل إبليس يتكبر ويرفض السجود لآدم، فقال:
(قال أنا خيرٌ منه خلقتني من نار وخلقته من طين) [الأعراف: 12].
وكذلك اغترّ قارون حين نسب الفضل لنفسه على ما هو فيه من النعم، فقال تعالى:
(إنما أوتيته على علم عندي) [القصص: 78].
من الأسباب التي توقع الإنسان في الغرور:
العشيرة والقبيلة، المنصب والجاه، كثرة الأولاد، المظهر الجميل، امتلاك الأشياء الثمينة، فخامة البيوت، حب الناس، كثرة الإنجازات.
لكنني - في هذه الحياة - صادفت من لا يملك شيئًا من ذلك، ومع ذلك هو مصاب بالغرور!سبحان الله ألا يعلم هؤلاء أن الله هو الواحد الأحد، الذي لا ينازعه أحدٌ في الملك؟ وأن الإنسان عبدٌ لله، وأن كل ما يحيط به من نعم إنما هو من فضل الله عليه؟ وأن دوام النعمة يكون بشكرها، فلا يغترّ؟! فقد قيل: “الذين ماتوا بالأمس كان لديهم خطط لهذا الصباح، والذين ماتوا هذا الصباح كانت لديهم خطط لهذه الليلة.”
فلا تخدعك الحياة، قال الله تعالى:
(وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور)
وقد فسّر ابن كثير هذه الآية بأنها تصغير لشأن الدنيا، وتحقير لأمرها، وأنها فانية قليلة، وهي متاع زائل، يغتر بها من ركن إليها، فيعجبه ظاهرها، ويعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد بعدها، فاحذر، أيها القارئ، أن يتسلل الغرور إليك، ويتربع عرش قلبك. وتذكر أن أولك نطفة، وآخرك جيفة