والصلحُ خيّر
الكاتبة: ثريا بنت علي الربيعية
الصلحُ كلمةٌ عظيمة المعنى والأثر، وهي من أسمى الطاعات التي باركها اللهُ سبحانه وتعالى، وجعلها بابًا من أبواب الخير والرحمة، وقد حرصت المجتمعات السليمة على التصالح بين أفرادها؛ لأن الصلحَ خلقٌ نبيلٌ يثمر خيرًا، ويغرس قيم المحبة والسلام، كما يُطفئ نار العداوة؛ لذا أمرنا الله تعالى بذلك في كتابه العزيز فقال: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: ١٠]، وكذا ما تضمنه العديد من الأدلة الشرعية في نطاق وجوب الأخذ بأسباب الإصلاح بين قلوب المتخاصمين سواء في الأسرة أو حتى بين الجماعات.
لاريبّ أنّ الصلح عبادة جليلة، فما أحوجنا إلى أن نغلق باب الخلاف بكلمة طيبة، ونفتح باب الرحمة بتصرفٍ حكيم، وأن يُبادر كُلٌ منا بالصلح مع مَن خاصمه؛ فيَصِل من قطعه، ويعطي من حرمه، ويعفو عمن ظلمه، ويبدأ بصفحةٍ بيضاء نقية، وهذا يظهر جليًا عندما أمرنا الشرع بالإصلاح بين الجماعات المسلمة المتحاربة، مع مراعاة العدل والإنصاف بينهم، فكان فمن الأوجب إصلاح الخصام بين الأرحام؛ حتى لا نعطي لهوة الخصومة أن تزداد وتتسع، بل المبادرة به في كل بيت، وفي كل قرية، أو مدرسة، أو مؤسسة كبيرة كانت أم صغيرة.
لو أدرك الناس جمال الصلح وقيمته، لأغلقوا أبواب الخصام، ولأقاموا بينهم جسور المحبة والتفاهم؛ لما له من أثرٍ بالغ في تجديد وشائج الود وصفوها لاسيما حين يكون بين الأهل والأقارب، فهو مدعاة للتراضي والخير، فقد جاء في كتاب المغني لابن قدامة: " أن الصلح هو معاقدة للإصلاح بين الناس" وهذا الإصلاح يستلزم الرضا بين كلا الطرفين، ونزع الضغينة من نفوسهم. والأجمل أن من يسعى لتطبيق هذا الخلق يكون له أجر عظيم عند الله ورضوانه، لأنه يسعى لإطفاء نار الفتنة والشتات.
من المؤسف للغاية ما نراه واقعًا من الجفاء والخصام بين كثير من الأسر بسبب خلافات بسيطة، بدأت بكلمة جارحة أو موقف عابر، لكنها كبرت مع الأيام لتصبح جدارًا من الجفاء والبغض بين القلوب؛ والأدهى من ذلك ما يكون من خصام بين الأب وأبنائه، أو الأخ وأخيه في البيت الواحد، وقد يتناسى أحدهم فرائض البّر والإحسان وواجبات الصلة بين الأرحام، في حين أن تلك النزاعات كان يمكن أن تُحل بكلمة طيبة، أو باتفاق هادئ، أو حتى بتنازل بسيط قد يُنقذ تصدُّع الأُسر، ويحفظ بيوتًا من الانهيار.
بيد أنّ القضية ليست في أسباب الخصام بين الآباء فقط، إنما تتجاوز ذلك ليدوم أثر القطيعة على علاقات الأبناء والأحفاد، فكم من بيت تفرقت أركانه بسبب عناد، وكم من قلوب قست وجفت بسبب موقف عارض، وكم من أخوة تقطعت صلاتهم بسبب كلمة لم تُحسَن صياغتها!
من الراجح ألّا يخلو أي مجتمع في وقتنا الحاضر من أسباب الفرقة والخصام بين أفراده، مما أفضى إلى تدهور العلاقات وقطعها، والشواهد كثيرة بقصص وقضايا قائمة كان يمكن حلها قبل أن تتفاقم؛ ولذا يجب اتخاذ الإصلاح منهجًا يتبعه أهل الفضل والعلم كلما ساد الخلاف بدلًا من حلها والفصل فيها في ساحات المحاكم وأروقة القضاء، والسعي في تهدئة النفوس وبث روح الخيرية والسلام، والحث على مد يد العفو والصفح عمن أساء؛ إذ ما نراه من قطيعة واشتعال نار الحقد يتطلب وقفة جادة لتصحيح العلاقات وإزالة رواسب الفرقة بينها.
من زاوية أخرى لو نتتبع ما أُثّر عن أئمة عُمان العُدول، وماعُهد من سير القضاء العماني عبر التاريخ لوجدنا شواهد كثيرة تدل على اهتمامهم بهذا المبدأ الأصيل؛ إذ كان لمجالس القضاء والولاة والأعيان قديمًا دور جوهري في فض المنازعات، بل خصّصت فيها مساحات عريضة للفصل وإصلاح ذات البين، وقد سارت المجالس العمانية بأسلوب تسوية المنازعات بالصلح والود أولًا، حتى تناقلت الأجيال هذا النهج القويم، وما نشهده حاليًا من اهتمام السلطنة بتعيين لجان التوفيق والمصالحة في الدوائر الحكومية المختصة إنما هو امتدادًا لهذا النهج في مجال القضاء، وتقنينه وفق قانون عادل لاسيما أنها هذه اللجان تقوم بدور كبير في تهدئة النفوس وإرضائها.
في ضوء ما سبق يعتبر الصُلح شجاعة نابعة من القلب والعقل وليس كما يدعي البعض أنه استسلامًا وانكسارًا للطرف الآخر، وبالتأكيد أن الصلح ينبع من تصالح الإنسان في المقام الأول مع ذاته والآخرين؛ فالإصلاح يتطلب عزيمة الاعتذار ودرجة كبيرة من النضج العقلي، ونحن ندرك أن القلوب الطيبة بطبيعتها تألف وتُؤلف، ومن البديهي أن يكون الخلاف سنة من سنن الحياة، لكن تجاوزه بالتقارب هو ما يصنع الفرق بين علاقة هشة، وعلاقة متينة تثمر حبًا.
في النهاية، نُلخّصُ إلى أنّ الصلح هو دعوة للقلوب قبل الكلمات، فلنحرص أن نكون دومًا ممن يرقى بمبدأ لنقاء القلوب، وبأن تبنى كل علاقة بين الأقرباء والأصدقاء على نهج " الصلحُ خير"