حين تُختطف الأصالة باسم الثراء: الإنسان الخليجي بين الجذور والمادة
الكاتب: جاسم بن خميس القطيطي
ما يحدث للإنسان الخليجي اليوم بات يُعبِّر عنه الوضع الاقتصادي وحده، ولم يعد يتحدّث صباحًا ومساءً، بل وحتى قبل النوم، إلا عن شيء واحد اسمه "المادة". لقد أصبحت المادة الشغل الشاغل لمعتقداته وأفكاره.
وجوهر أصالة الإنسان في التقدّم الحضاري ليس في جمع المال، ولا في الانغماس بثقافة "أكون فأكنز"، بل في القيم التي تميّز هويته وتنطلق من تاريخه وأصالته.
إن الحديث المتكرر عن كيفية تحقيق الثراء وتحويله إلى محور الحوار اليومي، يؤدي إلى تكوين إنسان يتّبع السلوك الاقتصادي المادي، ويبتعد عن جذور الأصالة والعادات والتقاليد والأعراف المتجذّرة في المجتمع.
ما الذي أصابنا؟
لم نعد شعوبًا تنظر إلى ماضيها وحاضرها بوجه مشرق، ولم نعد نعيش من أجل قوت يومنا ببساطة وصفاء. بل أصبحنا نساير لحنًا كئيبًا عنوانه: "كيف أستطيع معانقة نظرة اقتصادية خانقة"، في ظل واقع يتكالب فيه الضغط المادي، وكأن الحياة لا تنبض إلا من خلال هذه النظرة الاقتصادية المبالغ فيها، والتي قد توصف أحيانًا بأنها "حرام" إن صح القول.
ولو تأمّلنا سلوك الزوّار أو السيّاح القادمين إلينا من ثقافات خارجية، واصطحبناهم في جولة داخل مظاهر الترف والبذخ، سنجد أن راحتهم الحقيقة لا تكمن في الأسواق والتحّف، بل في التجمّع الأسري والمجالس التقليدية التي تعكس مشهد الأصالة، وصفاء الإنسان، وجودة علاقاته.
الإنسان الأصيل لا يُعرّف بثروته، بل بثقافته، وحنينه لقيم مجتمعه، وقدرته على الحوار البنّاء. لكن للأسف، أصبح الجميع منشغلًا بالمبادئ الاقتصادية وكيفية تحقيق الربح، ونسي كثيرون منهج الأصالة، وخدمة المجتمع، ومظاهر التعايش الجميل مع الآخرين. لقد ساد وجوم داخلي بسبب النظرة المادية، فغابت عنا البساطة، وتحولنا إلى نماذج مستهلكة تفتقد الهوية.
الخطر لا يكمن فقط في المادة، بل في النموذج الدعائي الذي يروّج بأن النجاح يتحقق فقط عبر الثراء، ويهمل القيم والعادات والتقاليد. من هنا، يبدأ تغييب الأصالة، وابتعاد الإنسان الخليجي عن جوهره الحقيقي، لينغمس في عالم المادة بلا طعم ولا انتماء. البحث الدائم عن الرفاهية، والتفكير العميق نحو المال فقط، منحنى سلبي قد يجعل الإنسان من الداخل مفقودًا، يفتقد الانسجام الحقيقي مع نفسه ومع مجتمعه، ويعيش دون أن يتذوّق جمال الحياة التي لا تُقاس بالثروة.
تظل وسامة الإنسان وقداسته تبرز من خلال بساطته، وتمسّكه بعادات مجتمعه، وتفاعله الحقيقي مع ناسه. هذه هي التهيئة الحقيقية نحو ثقافة حضارية راقية.
ولذلك، من الواجب على الإنسان الخليجي أن يعيد النظر في فكره تجاه المادة، وألا يعتبرها الشريان الوحيد للتعاطي مع الحياة ومكوناتها. عليه أن لا يرضخ لأفكار تُهمّش الأصالة وجودتها.