رواية الهارب الجزء السابع
الكاتب والروائي إبراهيم بن سعيد الرويضي
- سوف ننهي عملنا في اسرع وقت، ونمسح آثار أقدامنا، فهذا عمل سهل جدا يا خاله. أمسك راشد بيدي العجوز قائلا:
ـ إن الصندوق أمانة عندك يا خالتي.
ـ أفديك وأفدي أمانتك بحياتي يا ولدي، كن مطمئنا. هكذا أجابته..
هل سيتمكن راشد وابنته من تجاوز عقبة أخاه جابر ومراقبة الشرطة؟
كان هذا السؤال الذي طرح نفسه في حلقتنا الماضية..
...........
لم يتوقع جابر هذه المفاجأة. وهو الذي شعر للحظة أنه قد ظفر ببطلنا أخيرا. لقد كانت نظرات راشد الهادئة والساخرة في آن واحد وهو يصعد السلم هي آخر ما يتذكره جابر..
- لقد حذرتك من ألاعيب أخاك. لو كنت قد ابلغت الشرطة في حينها لكان الآن في قبضتنا. اغمض عينيه وهو يمسح بيديه لحيته الصغيرة قائلا:
- (لا بأس يا أختي. لقد ذهب شاكر لإبلاغ الشرطة. كما ان هناك مجموعة من الرجال قد كلفتهم بمطاردته، ليس له من سبيل للخروج من هنا. لقد أوقع نفسه في ورطة.) أخذ جابر يفكر. ولم يقطع عليه تفكيره سوى سؤال رشيده عن سبب شروده، فبادرها بسؤال هو ما كان يشغل تفكيره:
- إن كان راشد هو من أخذ الصندوق فعلا. فأين يذهب به برأيك؟. سكتت رشيده وهي تنظر إليه وقد عقدت حاجبيها ببلاهة وقطبت جبينها مستنكرة هذا السؤال:
- لا أدري. ولكن يبدو لي أنه من الصعب عليه التحرك بحرية في البلدة فهي صغيرة جدا ورجال الشرطة على أثره. نظر إليها وهو صامت إلى أن دخل عليهما شاكر الذي قال وهو يحاول أن يلتقط انفاسه:
- سوف لن يفلت من قبضتنا يا جابر، فالرجال قد سدوا جميع المنافذ كما أن الشرطة كثفت البحث عنه. إبتسم جابر وهو ينظر إلى شاكر وكأنه يبحث عمن يشاركه أفكاره:
- قل لي يا شاكر. لو كنت مكان راشد وتحمل صندوق المجوهرات. فأين تذهب به؟. بدون تردد اجاب:
- إلى المنزل أو المزرعة أو ربما عند شخص مقرب لدي. كان رد شاكر سريعا وبديهيا.. توسعت إبتسامة جابر وهو يقول:
- هذا ما أردت سماعه.
- ولكن ألا يمكن أن يكون قد أودعه عند صفيه؟ قالتها رشيده. إلا أنه نظر إليها قائلا لها بنبرة هادئة:
- (إن البلدة التي تقطنها صفيه بعيدة جدا. ولا يسعفه الوقت للذهاب صباحا والعودة مساء لأجل صندوق بإمكانه أن يخبئه في مكان يطمئن إليه. وليس هناك مكان أفضل من المنزل أو المزرعة او شخص يثق به كما قال شاكر.). ثم تابع كلامه قائلاً:
- ضع بعض الأشخاص في حراسة المزرعة والمنزل يا شاكر، وغدا سنبحث فيهما عن الصندوق، وسوف نبحث إن كان لراشد أطراف أخرى ساعدته في الإختباء.
كانت الخالة شريفة قد ضللت رجال الشرطة كما ضللت رجال جابر أيضًا الذين كانوا يبحثون في الجوار، حين سألوها أثناء مرورهم بالقرب من منزلها. فقالت لهم أنها رأت رجلا ملثما وهو يحمل شوالا كبيرا على ظهره عندما اصطدم بها أثناء عبوره بالقرب من منزلها وهي في طريقها كي تجلب الماء من الساقية القريبة، ثم شاهدت الرجل يذهب مسرعا إلى القرية المجاورة والتي تقع خلف الجبل.
ـ هذا ما قاله جميع من رأوه. هكذا عقب على كلامها أحد رجال جابر. وحين علم شاكر بذلك قام بإرسال رجاله إلى القرية المجاورة والتي أشارت إليها الخالة شريفه. بينما أرسل المفتش مهيب رجاله أيضا لنفس الجهة.
في الصباح الباكر، وبعد أن فحصت العجوز المكان وتبينت انه خالي من المطاردين، حملت حنين وذهبت بها باتجاه السيارة التي ستغادر بعد قليل، بينما كان راشد خلفهم على بعد خمسين مترا، بإنتظار الإشارة. وعندما تهيأ السائق للتحرك أعطت العجوز إشارتها لراشد كي ينضم إلى ابنته في السيارة. التي غادرت المكان مباشرة إلى البلدة التي تسكنها صفيه.
بدا الغضب واضحا على جابر وهو يطيح بكل ما تصل إليه يديه وهو يصرخ:
- لقد خدعتكم العجوز، فهي على صلة وثيقة بوالدة راشد منذ زمن بعيد، لقد كانت تعطف عليها وتساعدها؟. ولا ريب انها خبأته. ثم عض على شفتيه وقطب حاجبيه وهو يضرب الجدار بقبضته مغمضا عينيه قائلاً:
- يالي من أحمق. كيف لم أفطن لهذا. ثم حدث نفسه:
- إن كنا لم نجد الصندوق في المزرعة والمنزل فلا ريب أنه خبأه عند العجوز شريفة.
- الويل لها إن كانت قد تعاونت معه. قالتها رشيده. ولكن جابر قال لها:
- سوف تراقبيها جيدا وعندما تغادر المنزل، نقوم بتفتيش منزلها.
في صباح ذلك اليوم غادرت الخاله شريفة منزلها متوجهة إلى السوق، تبعتها رشيدة حتى إطمأنت إلى أنها إبتعدت كثيرا عن منزلها.
- لم نجد شيئاً يا جابر. لقد فتشنا في كل زاوية وبعثرنا محتويات العجوز. قالها شاكر. ثم استرسل في حديثه:
- يبدو أننا أسأنا تقدير الموقف. فليس من المعقول ان يخبأ راشد شيئا ثمينا كهذا في هذا الكوخ الصغير. لكن جابر لم يسمح لليأس أن يتسرب إلى رأسه فقال:
ـ فتشوا خلف المنزل يا شاكر، وبجانب تلك التلة، أزيحوا كل شيء امامكم، لا تتركوا حجرا فوق حجر.
ـ لقد فتشنا جيدا حيث امرتنا ولم نجد شيئا.
- ولن تجدوا شيئا. قالتها الخالة شريفة، فقد كانت تعلم أنهم سوف يأتون إلى كوخها الصغير. وقد استشاطت غضبا لما رأته من بعثرة محتوياته.
- نحن نعرف كل شيء يا شريفة، لا تتظاهري بالبراءة. فقد خبأت راشد وحنين. كما ان هناك شيئا مهما يجب أن تدلينا على مكانه. مضت نحوه تمشي على عكازها بخطى ثابتة وواثقة. لم يمنععا سنها الذي تجاوز السبعين من أن تقف شامخة أمام هذا المد العاتي من الطغيان..
- أنت تهذي يا جابر. فأنا لا أعرف شيئا مما تتحدث عنه. ثم تقدمت بضع خطوات نحوه وهي تصوب إليه نظرات حانقة. تابعت بعدها النظر نحو رشيدة قائلة:
- يبدو أن عبد الرزاق لم يحسن تأديبكما حتى تخاطباني هكذا. ثم أقبلت بعدها على بعض الأواني المبعثرة وهي تلملمها، بعد أن القت نظرة حادة على شاكر الذي تراجع فجأة خطوة إلى الوراء وهو يرتعش..
- يالك من رجل تافه يا شاكر. كيف سمحت لنفسك أن تنزل بها إلى الحضيض مع هؤلاء. ولكن رشيده صرخت فيها:
- صوني لسانك يا امرأة. ولكن العجوز تابعت حديثها دون أن تأبه لتهديدات رشيده قائلة:
- لقد إئتمنك عبد الرزاق على ماله وبيته. ولكنك خنت الأمانة.
نظرت إليها رشيدة بعينين جاحظتين وقد فغرت فاها قائلة:
- ما الذي تعنيه بكلامك هذا أيتها العجوز؟. صمتت الخالة شريفة للحظة وهي تكمل ما بدأته في ترتيب أغراضها المبعثرة ثم أعادت النظر مليا إلى شاكر قائلة لها:
- هو سيخبرك. قالت العجوز هذه العبارة وكأنها القت حبالا من نار على رقبة شاكر. نظرت رشيدة إلى زوجها مستنكرة صمته ثم قالت:
- ماذا تعني هذه العجوز بقولها؟ قل شيئا؟!. تململ شاكر وتبعثرت الحروف والكلمات بين شفتيه، فلم يعد بإمكانه ربط الكلمات كي يشكل منها جملة واضحة. حتى غدت كلماته مقطعة وهو يشير بغضب إلى الخالة شريفة:
- أنا لا أعلم عم تتحدث هذه العجوز الخبيثة. كل ما أعرفه إنها تحاول أن تبث الفرقة بيننا. حتى تشتت إنتباهنا كي نبتعد عن راشد. كان جابر يتفرس في شاكر، وظل ينظر إليه بحدة دون أن يرمش بعينه للحظة، ثم قام بعدها من مكانه وهو يدورحول شاكر، وقد إعتراه الغضب والجم فؤاده:
- ما الذي تخبأه يا شاكر؟ اقترب منه أكثر حتى كاد أن يلصق شفتيه في أُذني شاكر ـ لم أنت مرتبك هكذا؟ ما الذي تعرفه هذه العجوز ونحن لا نعرفه؟
- صدقني يا جابر إنها تنفث سمومها فينا حتى تبعدنا عن هدفنا. قالها شاكر وقد جحظت عيناه من الخوف. ثم كرر عليه جابر السؤال بصيغة أخرى..
- هل هناك لعبة تحيكها ونحن لا نعلم يا شاكر؟.
- أقسم لكما أنني لا أعرف شيئا. بدا على زوجته الذهول وقد تراجعت إلى الوراء قليلا وهي تهز رأسها غير مصدقة ما تسمع. أقبل جابر نحو الخالة شريفة قائلا:
- أنت سوف تخبريني وإلا سوف أدفنك هنا في كوخك الحقير هذا. إبتسمت الخالة شريفة ثم أقبلت على جابر بعد أن انتهت من ترتيب أغراضها المبعثرة..
- أتظن أنك تخيفني بهذا الكلام ايها المعتوه. لطالما علمت أنك كنت تسرق أباك طوال السنوات الماضية من محلاته التي في السوق، ثم تعطيه النزر اليسير بحجة أن حال السوق ليس على ما يرام. التفتت بعدها إلى رشيده بعد أن دارت حولها وهي تتكأ على عصاها..
ـ أتظنان أن أباكما لم يكن يعلم بأمركما؟ كان على علم بكل شيء ولكن لم يشأ أن يبدي ذلك خصوصا في فترة مرضه وحتى لا تستعر النار بينك وبين أخاك. وضعت الخالة يدها على كتف رشيده وهي تضغط عليها..
ـ إن رشيده المسكينة لم تكن تحصل إلا على الفتات منك يا جابر. نظر إليها وقد احتقنت أوداجه من الغضب وفار الدم في رأسه..
- أنا وأختي متفاهمين فلا تبثي الفرقة بيننا.
- إذا أنت تعترف بسرقة مال أبيك. وها أنتم الآن تتهمون راشد بسرقة الوثائق والمستندات ولا تعترفون بأن أباكم قد كتب المزرعة لراشد بمحض إرادته كما كتب لكما المنزل. تململ جابر في حديثه وهو يشيح بنظره عنها متجها نحو الباب الذي بدا انه سيسقط بفعل الزمان.
- لقد قضيت في إدارة المحلات سنوات طويلة ولم يكن أبانا يمنحنا شيئا من إيرادها إلا القليل بما يمنه علينا. هكذا اجاب جابر.
بينما عقبت شريفة وهي تتكأ على عصاها الغليظة والتي أكلها الدهر:
- لا أعتقد أن المحلات تخصكم الآن بعد أن آلت ملكيتها للغريب. نظرت إليها رشيدة بغضب وقد اعترتها دهشة كبيرة وهي تقول:
- ما هذا الهذيان يا امرأة؟ من هذا الغريب؟ وكيف تم ذلك؟
- عليك أن تسألي شاكر من هو هذا الغريب.
هل كتب شاكر المحلات بإسمه حقا؟!. هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من حكاية الهارب..